جزيرة غمام.. فصل في حكايات الحياة
جزيرة غمام.. فصل في حكايات الحياة
كتبت: علياء أسامة أيوب
علاقة مرتبكة تربطنى بأعمال الكاتب الكبير عبدالرحيم كمال تتأرجح بين إعجاب مطلق بدراما مكتملة عناصر الإبداع وبين قبول متحفظ لا يستحسن حبكة هنا أو يمل من إيقاع بطئ هناك لكنى وفى كل مرة أترقب بشغف محب ما يكتب الأستاذ عبدالرحيم.
فرغم تجربتى السيئة العام الماضي مع "القاهرة-كابول" المسلسل صاحب الفكرة الذكية والانطلاقة القوية التى انطفأت سريعا وتحولت لخطبة وعظ طويلة ومحبطة.. إلا أننى ومع الحديث المبكر عن عمله الجديد، تصدر "جزيرة غمام" لائحتى لدراما رمضان هذا العام. وبدأت مشاهدة حذرة خوفا من إحباطى مجددا وللسبب نفسه تمهلت فى الكتابة عن المسلسل حتى يصل إلى حلقته الأخيرة وتمهلت مجددا لمعاودة المشاهدة والتأمل والتعمق فى عمل أثبت جدارته واستحقاقه البقاء.
جزيرة غمام .. حكاية تعيد إنتاج ذاتها
مع ظهور مصطلح العولمة باتت العبارة الشهيرة "العالم قرية صغيرة" شعارا لحقبة زمنية جديدة لكن القرية الصغيرة كانت دوما فى دنيا الحكايات نموذجا مصغرا للعالم يطرح فيه الكتاب -بدءا من مؤلفى قصص الأطفال وصولا لكبار المفكرين- رؤيتهم للحياة والمفاهيم السياسية والقيم المجردة كالحق والعدل ما بين رؤية شديدة المثالية تحلم بالمدينة الفاضلة (اليوتوبيا) فى مقابل كتابات شديدة المأساوية (ديستوبيا) وبينهما رؤية وسطى تحاكى الواقع كما هو فتقدم "واقعا يصنعه الخيال" كما وصف عبدالرحيم كمال مسلسله "جزيرة غمام".
فالجزيرة هى الدنيا وصراعات أهلها وآمالهم وطموحاتهم المشروعة وأطماعهم غير المشروعة هى الحكاية التى تعيد إنتاج ذاتها طالما بقيت الأرض تدور وبقينا نحن أبناء آدم سكانها فى مواجهة الشياطين من نسله أو نسل إبليس.
دورة كاملة شهدتها جزيرة غمام فبدأنا وانتهينا عند نفس النقطة رحيل الشيخ الصالح تاركا الأمانة بيد الرفاق الثلاثة من تلاميذه ليخوضوا الرحلة فى مواجهة أنفسهم وما يطرحه البحر من فتن. وإذا كانت الدورة كما قلنا مستمرة حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا فإن الحلقات الثلاثين كانت فصلا مقتطعا من عمر الحياة فكك عبدالرحيم كمال أحرفه ثم أعاد تركيبها مستعينا كعرفات بالله الخبير بأسرار الخشب ثم قدمها حكاية شعبية كشاعر ربابة جلس على طرف القرية يرويها بعذوبة علها تجد من يسمع.
قراءات متعددة لصراع رئيسى وصراعات فرعية
وفى حكايته تصاعدت الأحداث رأسيا في صراع رئيسى يخوضه الأبطال بين الخير والشر فى انتظار الزوبعة التى حذر منها الشيخ مدين وهو الصراع الذى سار على مهل فيما تتمدد الأحداث أفقيا فى صراعات فرعية أصغر لكنها لا تنفصل عنه وتمنح كل طرف نصرا صغيرا هنا أو ضربة موجعة هناك فيجمع خلدون النقاط حتى يهزمه عرفات بضربات قاضية ترجح كفته المتأرجحة حتى النهاية.
وهذه الصراعات الفرعية يمكن قراءتها على أكثر من مستوى.. أولا المستوى الوجودى صراع الخير والشر وثانيا مستوى دينى نراه فى الصراع بين الإنسان والشيطان من ناحية ونراه من ناحية أخرى بين الإيمان الحقيقى الواقر فى قلوب سليمة وأرواح تتصل فيما بينها بروابط المحبة الخالصة الموصولة بحب الله وبين التدين الشكلى الذى إما أن يكون تشددا وتطرفا ووصاية على الآخرين أو تساهلا وتفريطا.
وثالثا المستوى السياسى وهو ما يمكن تأويله على أكثر من وجه فنرى مثلا فى خلدون وطرح البحر انعكاسا للفكر الصهيونى والسعى للاستيلاء على الأرض والتقدم خطوة خطوة داخل الجزيرة كما نرى أيضا محاولات تخريب الجزيرة وزرع الفتنة بين أهلها. كما يقدم عبدالرحيم كمال رؤيته لشكل الحاكم التى تؤمن بنظرية المستبد العادل كما قدمه العجمى كبير الجزيرة ويحذر الكاتب من بطانة السوء التى تهدد سلامة أى مجتمع كما فعل جودة البطلان.
تجديد الخطاب الروحى
ويمكننا أن نرى كيف استغل الكاتب مجددا قصص الأنبياء وحكايات التراث الصوفى وعوالم الصعيد الرحبة فأعاد تقديم ما يتسق منها مع مشروعه الدرامى. وبعيدا عن محاولات التأويل وقراءة ما وراء السطور فإن جزيرة غمام في ذاتها قصة مدهشة ممتعة في كل تفاصيلها وتبقى واحدة من أكثر أعمال عبدالرحيم كمال قوة على مستوى الحبكة كما ذكرنا وأيضا رسم الشخصيات والحوار.
والحقيقة أن حوارات عبدالرحيم كمال فى أغلب الأحوال حوارات مميزة ممتعة ومختلفة فى مفرداتها ومعانيها الممتلئة بدفقات عالية من المشاعر بالغة الصدق ولا تخلو من فلسفته الخاصة وهو ما يجعلها واحدة من نقاط قوته ككاتب مهما تعرض النص لهزات على مستوى الحبكة أو الايقاع. وهنا فى جزيرة غمام كانت الجمل الحوارية من أمتع ما يكون وأقرب ما يكون للروح التى يخاطبها كمال الذى قال فى إحدى المقابلات إنه يسعى لتجديد ما أسماه "الخطاب الروحى".
عرفات مقابل خلدون
وعلى مستوى رسم الشخصيات فالاكيد أن جزيرة غمام من أقوى أعمال عبدالرحيم كمال فى هذه الناحية بداية من عرفات مفتاح الحكاية ومحرك الأحداث فهو الإنسان على فطرته كما خلقه الله ونفخ فيه من روحه لكنه بقى على نقائه وإيمانه ويقينه مدركا أن الحب هو أصل الوجود به تتصل الأرواح وتسمو عن الصغائر فتتسامح وترضى وتحن وتلقى الله بقلب سليم لا يعرف غلا أو حقدا ولا تسقط في فخ الشيطان ولا تغلق أبواب رحمة مفتوحة على اتساعها لحكمة الخالق. عرفات الذى يعذر الناس ولا يعذروه كما قال الشيخ مدين مرجعية الجزيرة حتى وإن غاب بروحه من الحلقة الأولى لكن حضوره طاغيا حتى المشاهد الأخيرة حين تحققت نبوءته وحضرت الزوبعة. ليس مجذوبا عرفات أو ضعيفا كما يسئ البعض تأويل سلوكه لكنه يفهم المعنى الحقيقي للقوة ويعرف أيضا متى وكيف يستخدمها فالحق الذى لا يخشى أحدا والروح الزاهدة التى لا تملك ذراعا تلوى أو تذلها حاجة زائلة هى الأقوى دائما فيكون وليا حقيقيا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لكن عرفات في النهاية ليس ملاكا مهما بلغت طيبته وزهده فكان منطقيا أن يقع قرب النهاية ضحية لإغواء خلدون فيزهو ويغتر بنفاق طرح البحر ليكون عقابه توهة تعيده إلى نفسه تائبا نادما مستغفرا.
وأينما كان عرفات سيحل بالضرورة خلدون الذى قال مرة إما أنا أو هو (ربنا خلقنا قبال بعض) فى تجسيد للصراع الدائم إلى يوم يبعث الله الخلق. جاء خلدون وقبيله من طرح البحر قاصدين جزيرة غمام لمواجهة عرفات فهو التحدى الأكبر تسبقه تحديات أصغر فما أهون مواجهة البطلان ويسرى ومحارب وحتى العجمى فى بعض الأحيان فكل منهم له غاية يدركها خلدون جيدا ويعرف كيف يلبيها ويتلاعب بها لتحقيق أغراضه. خلدون الذى يعرف أن عليه أن يسلك طريق جده المتزين (وهى اسماء لها دلالتها فى أبدية وجود الشيطان وإلى كبره الذى هوى به خارج الجنة).. على خلدون أن يبدو ضعيفا خانعا خادما لئيما حتى يسود أسياده، عليه أيضا ألا يتورط فى الفعل هو فقط يزين المعاصى ويدل أصحاب النفوس الفقيرة إلى طرق الشر والخراب يؤشر عليها من بعيد ثم يتمتع بمشاهدة ما يحل بالبشر من خسارات ليست دينية فقط لكنها أيضا دنيوية.
وما بين خلدون وعرفات يتأرجح البقية يتنافسون مع عرفات على مكانته التى يدركونها جميعا حتى وإن أنكروا ويلجأون لخلدون لتحقيق مآربهم قبل أن يكتشفوا زيف ما زين لهم لكن زلاتهم تجبرهم على الخضوع لخلدون فى انتظار عودة عرفات كمخلص للجزيرة من سطوة الشيطان الذى وقف على المنبر واعظا إيذانا بقدوم الزوبعة.
فلدينا محارب الشيخ الذى يعرف نواقصه ويداريها بالشدة على نفسه وعلى الآخرين ويستغل سلطته الدينية طمعا فى إرضاء شهوته للحكم لكنه أيضا يعرف حدوده فيتراجع مرة أمام سطوة العجمى ومرات أمام أموال البطلان. ويسرى الذى ينحدر للدجل ولا يعرف الرضا والبطلان التاجر والوزير الفاسد الذى يطمع فيما بعد أن يشطر الجزيرة فيحكم نصفها. ولدينا العجمى الحاكم القوى الحريص على العدل لأبناء الجزيرة الذين يعتبرهم جميعا أبنائه وبناته شريطة ألا تُمس هيبته ومكانته.
ونسائيا لدينا العايقة أو نوارة الحائرة بين براءة طفلة كانت عليها يوما وبين امرأة خلدون ووسيلته لتحقيق أطماعه. وهلالة التي هى الجزيرة عزتها وكرامتها وصوتها العالى الذى لا ينكسر أو يقبل الخطأ حتى لو حماية لولدها القاتل أو استعادة لحب عمرها وهى التي تقف في وجه خلدون لا تعبأ بمحاولاته لإخضاعها. ومليحة الجدة المكلومة الباحثة عن حق حفيدتها فقدت بصرها ربما لكنها لم تفقد بصيرتها. ولدينا درة ابنة العجمى وشرف الجزيرة الذى يطمع فيه خلدون كجائزة أخيرة قبل أن ينقذها عرفات لتصبح مكافأته هو.
وأخيرا لدينا الغاشى اللص القاتل الذى يبحث عن تسلية في كرامات عرفات ليأتيه ما يريد فات عرفات داخل حائط أقسى من الصخر ففات في قلبه هو.
رؤية إخراجية متكاملة
وإذا كانت الحكاية القوية أو ما يطلق عليه (الورق) بلغة الفن هي العنصر الرئيس لنجاح أي عمل درامى خاصة في الدراما التليفزيونية فإن الدور الذى تلعبه بقية العناصر لا يقل أهمية وهو ما شاهدناه في جزيرة غمام حيث أبدع المخرج حسين المنباوى في تقديم رؤية متكاملة حولت الكلمات لمشاهد حية نقلتنا لداخل الحكاية من خلال اهتمامه بأدق التفاصيل من ديكور وملابس وإضاءة وإن كانت المبالغة في نقل المشاهد الليلية كما هي كان له أثر سلبى في جودتها في بعض الأحيان ويبقى إخراج مشاهد الزوبعة في الحلقات الأخيرة من أقوى ما قدم حسين المنباوى. وإلى جانب كل هذا تأتى إدارته لطاقم فنى كبير قدم كل منهم أداءا راقيا متميزا بالغ الجودة والدقة والإتقان لتكتمل حلقة الإبداع في جزيرة غمام.
والبداية من جديد بعرفات أو أحمد أمين الذى جاء اختياره مفاجأة مبهرة بالنسبة لى خاصة وأنى لم أشاهده في ما وراء الطبيعة وأعرفه كممثل كوميدى جميل قادر على صنع بهجة غير مبتذلة تعيد اكتشاف حياتنا اليومية وأعرفه أيضا كفنان متعدد المواهب يكتب ويقلد ويغنى قبل أن يكشف لنا عن موهبة تمثيلية متفردة فاستطاع أن يتحكم بالشخصية وانفعالاتها دون أن ينزلق لفخاخ متعددة كان يمكن أن تدمر شخصية عرفات وتضعها في قوالب لم يقصدها عبدالرحيم كمال الذى قال إنه اختار أحمد أمين لأنه يحمل في داخله نقاء كنقاء عرفات. فقدم أحمد أمين عرفات الزاهد والمتسامح والطفل وسط الأطفال والعاشق والنادم والناصح لرفاقه وللعجمى ولمليحة والقوى في لحظات المواجهة.
وخلدون أو طارق لطفى الذى قدم واحدا من أروع أدواره ليثبت عاما بعد عام أنه واحدا من أهم وأقوى الممثلين حاليا وأكثرهم موهبة وإبداعا وأن الموهبة القوية تفرض نفسها مهما طال الزمن. فأبدع في إدعاء الضعف والخنوع للأقوى ومحاولاته إغواء أهل القرية واهتمامه بتفاصيل الشخصية في الملابس والنظرات والصوت الذى كان نقطة محورية في أداء طارق لطفى لخلدون بقوته وإدعائه الضعف وغضبه ووجعه.
أما مى عزالدين فيحسب لها جرأتها وذكائها فى قبول الدور بمساحته الصغيرة لكن مكانته كبيرة ومؤثرة ونجاح مى فى تجسيده برقى دون أن تنجرف لابتذال غير مطلوب كان تمردا فى محله على أدوار كثيرة متشابهة أضعفت ثقل مشوارها غير القصير لكن العتيقة مثلت نقلة نوعية قد تفتح لها أبواب التنوع والإبداع.
فرياض الخولى الفنان الكبير مقاما وموهبة أبدع كعادته فى تقديم شخصية مثيرة فالعجمى سياسى بالفطرة يعرف كيف يصول ويجول ويتلاعب بالالفاظ يفاوض ويهادن أحيانا ويبطش أحيانا كثيرة وكانطباع شخصى شعرت بحت شعرت وكأن العجمى هو امتداد لشخصيتى الأثيرة زكريا أبو العمدة التى سبق وقدمها رياض الخولى فى مسلسل الفرار من الحب قبل نحو عشرين عاما.
ورغم المساحة الأصغر نسبيا للدور تألق فتحى عبدالوهاب فى تقديم شخصية محارب بحدتها وتوترها وطمعها وايضا محمد جمعة فى دور يسرى الشيخ الساخط الذى تحول لدجال طماع لا يرضى وطبعا محمود البزاوى الذى أبدع فى تلونه مع البطلان الخانع مرة والغاضب مرات والطماع دائما. كذلك تألقت النجمة وفاء عامر فتوحدت مشاعرنا مع هلالة القوية الرومانسية الحنونة التى لا تخشى فى الحق شيئا حتى لو كان الثمن خساراتها. ولا ننسى عايدة فهمى فى دور مليحة وضياء عبدالخالق الذى أدهشنى بأداء رائق لشخصية الغاشى وأبكانى فى مشاهد عدة مع تحوله من زعيم عصابة لتابع مخلص بعرفات.
تتر مميز بين الأصالة والخصوصية
والحقيقة أن الجميع أبدعوا فى أدوارهم لتقديم حالة فنية شديدة الخصوصية اكتملت بتتر مميز يحمل دون تعمد بصمات عبد الرحمن الابنودي وسيد حجاب وعمار الشريعى وياسر عبدالرحمن وإبداعاتهم الخالدة فى تترات دراما الصعيد لكنه فى النهاية يحمل شخصية الملحن شادى مؤنس والشاعر إبراهيم عبدالفتاح الذى لخص بكلماته الرائعة شديدة العذوبة حكاية طرح البحر الجزيرة واهلها ورفاقها الثلاثة وعرفات بالجملة المعبرة عنه والتى تمس روحى كلما سمعتها:
وحدانى بيتى الخلا والقلب ملهوش حد غيرك حبيبتى اللى وحدك ساكنة فى حواشيه
لا سقف عندى يحوش عنى لظى أو برد ولا عندى باب توحشه دقة ايديكى عليه
تتر بهذه الخلطة لعمل بهذه القوة والعذوبة من له إلا القدير على الحجار ملك التترات الذى يقدم لا مجرد الطرب الاصيل إنما أداء دراميا غنائيا يضعك داخل الحالة العامة للعمل منذ الجملة الغنائية الاولى.
أخيرا فإن جزيرة غمام عمل سيبقى فى تاريخ الدراما المصرية كواحد من علاماتها.
تعليقات
إرسال تعليق